فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

الأظهر أنّ قوله: {ليس بأمانيكم} استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال، والتشويه بمساويها، وأنّ في (ليس) ضميرًا عائدًا على الجزاء المفهوم من قوله: {يجز به}، أي ليس الجزاء تابعًا لأماني الناس ومشتهاهم، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديرًا بحسب الأعمال، وممّا يؤيّد أن يكون قوله: {ليس بأمانيكم} استئنافًا ابتدائيًا أنّه وقع بعد تذييل مُشعر بالنهاية وهو قوله: {ومن أصْدق من الله قيلًا} [النساء: 122].
ومِمّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهامًا في الضمير، ثم بيانًا له بالحملة بعده، وهي: {من يعمل سوءًا يجز به}؛ وأنّ فيه تقديم جملة {ليس بأمانيكم} عن موقعها الذي يُترقّب في آخر الكلام، فكان تقديمها إظهارًا للاهتمام بها، وتهيئةً لإبهام الضمير.
وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم. اهـ.

.قال الفخر:

{لَّيْسَ} فعل، فلابد من اسم يكون هو مسندًا إليه، وفيه وجوه: الأول: ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى} [النساء: 122] الآية، بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، أي ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح.
الثاني: ليس وضع الدين على أمانيكم.
الثالث: ليس الثواب والعقاب بأمانيكم، والوجه الأول أولى لأن إسناد {لَّيْسَ} إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور. اهـ.
قال الفخر:
الخطاب في قوله: {لَّيْسَ بأمانيكم} خطاب مع من؟
فيه قولان:
الأول: أنه خطاب مع عبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون هناك حشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب، وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله، وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فلا يعذبنا، وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80].
القول الثاني: أنه خطاب مع المسلمين، وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وليس الأمر كذلك، فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 116] وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نبيّنا خاتم النبيّين، وكتابنا ناسخ الكتب، فأنزل الله تعالى هذه الآية. اهـ.

.قال القرطبي:

ومن أحسن ما روي في نزولها ما رواه الحكَم بن أبَان عن عِكرمة عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلاَّ من كان منّا.
وقالت قريش: ليس نبعث، فأنزل الله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب}.
وقال قتادة والسديّ: تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم.
وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب، فنزلت الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

بين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى، فبطل قول النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة، فبطل قول المسلمين واليهود: لن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكمًا فصلًا بين الفرق، وتعليمًا لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح، وتوفّر العمل الصالح معه، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب}.
ثم إنّ الله لَوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله: {وهو مؤمن} فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ، فهو كالعدم، فعقّب هذه الآية بقوله: {ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه الله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا} [النساء: 125].
والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين، لا لأنّ أمانيّهم كذلك، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم. اهـ. بتصرف يسير.
فائدة:
والباء في قوله: {بأمانيكم} للملابسة، أي ليس الجزاء حاصلًا حصولًا على حسب أمانيّكم، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية.
والأمانيّ جمع أمنية، وهي اسم للتمنّي، أي تقدير غير الواقع واقعًا.
والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة.
وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى: {لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ} في سورة البقرة (78).
وكأنَّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به.
وما وافقه هو الحقّ، والمقصد المهمّ هو قوله: {ولا أمانيّ أهل الكتاب} على نحو: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24] فإنّ اليهود كانوا في غرور، يقولون: لن تمسنّا النار إلاّ أيّامًا معدودة.
وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله: {وقالوا لن تمسنّا النار إلاّ أيّامًا معدودة} [البقرة: 80] {تلك أمانيّهم} [البقرة: 111].
أمّا المسلمون فمُحاشون من اعتقاد مثل ذلك.
وقيل: الخطاب لكفار العرب، أي ليس بأمانيّ المشركين، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله، وهو محمل للآية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ}.
السوء هاهنا الشرك، قال الحسن: هذه الآية في الكافر، وقرأ {وَهَلْ يُجَازَى إلاَّ الْكَفُورُ}.
وعنه أيضًا {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} قال: ذلك لمن أراد الله هَوانه، فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قومًا فقال: {أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].
وقال الضحاك: يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب.
وقال الجمهور: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجاز بعمله السوء، فأما مجازاة الكافر فالنار؛ لأن كفره أوْبَقَه، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قارِبوا وسَدِّدوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها» وخرّج الترمذي الحكيم في (نوادر الأُصول، في الفصل الخامس والتسعين) حدّثنا إبراهيم بن المستمرّ الهذلي قال حدّثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال صحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فقال لنافع: لا تمرّ بي على المصلوب؛ يعني ابن الزبير، قال: فما فجِئه في جوف الليل أن صك محملَه جِذعُه؛ فجلس فمسح عينيه ثم قال: يرحمك الله أبا خبيب أن كنتَ وأن كنتَ! ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يعمل سوءًا يجز به في الدنيا أو في الآخرة» فإن يك هذا بذاك فهِيهْ.
قال الترمذي أبو عبد الله: فأما في التنزيل فقد أجمله فقال: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} فدخل فيه البرّ والفاجر والعدو والولِيّ والمؤمن والكافر؛ ثم ميّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: «يجز بِهِ في الدنيا أو في الآخرة» وليس يجمع عليه الجزاء في الموطنين؛ ألا ترى أن ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهِيهْ؛ معناه أنه قاتل في حرم الله وأحدث فيه حدثًا عظيمًا حتى أحرق البيت ورمى الحجر الأسود بالمَنْجَنيق فانصدع حتى ضُبِّب بالفضة فهو إلى يومنا هذا كذلك؛ وسمع للبيت أنينًا: آه آه! فلما رأى ابن عمر فعله ثم رآه مقتولًا مصلوبًا ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يعمل سوءًا يجز بِهِ} ثم قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهِيهْ؛ أي كأنه جوزي بذلك السوء هذا القتل والصلب.
رحمه الله! ثم مَيّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بين الفريقين؛ حدّثنا أبي رحمه الله قال حدّثنا أبو نعيم قال حدّثنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيَ قال: لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: ما هذه بمبقية مِنا؛ قال: «يا أبا بكر إنما يجزى المؤمن بها في الدنيا ويجزى بها الكافر يوم القيامة» حدّثنا الجارود قال حدّثنا وكيع وأبو معاوية وعبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن (أبي) زهير الثقفيّ قال: لما نزلت {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شيء عملناه جزينا به؛ فقال: «غفر الله لك يا أبا بكر ألست تَنصَب، ألست تَحزَن، ألست تصيبك اللأْوَاء»؟ قال: بلى.
قال: «فذلك مما تجزون به» ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجمله التنزيل من قوله: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ}.
وروى الترمذيّ عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنها لما نزلت قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أمّا أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» قال: حديث غريب: وفي إسناده مقال، وموسى بن عُبَيْدة يضعَّف في الحديث، ضعَّفه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل.
ومولى بن سباع مجهول، وقد روي هذا من غير وجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح أيضًا؛ وفي الباب عن عائشة.
قلت: خرّجه إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدّثنا سليمان ابن حرب قال حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أُمّه أنها سألت عائشة عن هذه الآية {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] وعن هذه الآية {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} فقالت عائشة: ما سألني أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛ فقال: «يا عائشة، هذه مبايعة الله بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقِدها فيفزع فيجدها في عَيْبَته، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر من الكير».
واسم «ليس» مضمر فيها في جميع هذه الأقوال؛ والتقدير: ليس الكائن من أُموركم ما تتمنونه، بل من يعمل سوءًا يجز به.
وقيل: المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم؛ إذ قد تقدّم {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات}. اهـ.